
اَلأَصْحَاحُ التَّاسِعُ
وَبَارَكَ اللهُ نُوحاً وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلَأُوا الأَرْضَ. 2وَلْتَكُنْ خَشْيَتُكُمْ وَرَهْبَتُكُمْ عَلَى كُلِّ حَيَوَانَاتِ الأَرْضِ وَكُلِّ طُيُورِ السَّمَاءِ مَعَ كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ وَكُلِّ أَسْمَاكِ الْبَحْرِ. قَدْ دُفِعَتْ إِلَى أَيْدِيكُمْ. 3كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَاماً. كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ الْجَمِيعَ. 4غَيْرَ أَنَّ لَحْماً بِحَيَاتِهِ دَمِهِ لاَ تَأْكُلُوهُ. 5وَأَطْلُبُ أَنَا دَمَكُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَقَطْ. مِنْ يَدِ كُلِّ حَيَوَانٍ أَطْلُبُهُ. وَمِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَطْلُبُ نَفْسَ الإِنْسَانِ مِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَخِيهِ. 6سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ. 7فَأَثْمِرُوا أَنْتُمْ وَاكْثُرُوا وَتَوَالَدُوا فِي الأَرْضِ وَتَكَاثَرُوا فِيهَا».
تجديد العهد مع الإنسان
نلاحظ أن الله يجدد نفس العهد الذي قطعه مع آدم وحواء.
ـ أثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلَأُوا الأَرْضَ
هذه الوصية بداخلها أكثر من مضمون. الأول: مباركة العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة وأنها لاتزال مقدسة بعد السقوط كما كانت قبله. الثاني: الإنسان مفطور على أن يثمر ويكثر وهذا ليس معناه فقط التناسل والتكاثر الجسدي، وإنما أيضاً الخلق والإبداع الفني والعلمي وكل شيء من شأنه أن يُعلي من قيمة وعمق الحياة الإنسانية.
ـ وَلْتَكُنْ خَشْيَتُكُمْ وَرَهْبَتُكُمْ عَلَى كُلِّ حَيَوَانَاتِ الأَرْضِ وَكُلِّ طُيُورِ السَّمَاءِ مَعَ كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ وَكُلِّ أَسْمَاكِ الْبَحْرِ. قَدْ دُفِعَتْ إِلَى أَيْدِيكُمْ,
هذه الوصية مضمونها أن الله يعطي الإنسان السلطان مرة أخرى برغم سقوطه وخطيته. وهذا مهم أن نفهمه لأن عطايا الله هي بلا ندامة. الله لا يتراجع عن قراره في كونه قد خلق الإنسان على صورته معطياً إياه القدرة على الخلق والإبداع والحرية والسلطان حتى وإن كان الإنسان يستخدم هذا السلطان لعصيان الله وإيذاء أخيه الإنسان. الدين يصور الله وكأنه جاثم على صدر الإنسان أو عين كبيرة تراقبانه لكي تتصيد له الأخطاء لكن العهد الذي يقدمه الكتاب المقدس هنا يتضمن أن الله يتراجع ويعطي السلطان للإنسان لكي يزرع ويحصد ما يزرعه إن كان خيراً وإن كان شراً.
الله يتدخل في مواقف خاصة لكنه بعد ذلك يأخذ خطوة للخلف ويعطي المساحة للإنسان لكي يعيش بحرية. الله أب صالح غير مسيطر وغير اعتمادي يسمح بالحرية لخليقته ويتركهم ليحققوا ذواتهم.
الإنسان الذي يستخدم حريته في الشر يحصد الشر إن آجلاً أو عاجلاً. و الإنسان الذي يستخدم حريته في البناء والتعمير فهو يحصد بناء وخلقاً وإبداعاً حتى وإن لم يؤمن بالله لكنه لا يحصد علاقة مع الله. أما الإنسان الذي يخضع لله ويعبده فإنه يحصد بالإضافة إلى ذلك علاقة روحية مع الله تجعل لحياته عمقاً في الأرض وأبدية مع الله بعد أن تنتهي الحياة على هذه الأرض أو تنتهي حياته هو هناك.
- قَدْ دُفِعَتْ إِلَى أَيْدِيكُمْ. 3كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَاماً. كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ الْجَمِيعَ. 4غَيْرَ أَنَّ لَحْماً بِحَيَاتِهِ دَمِهِ لاَ تَأْكُلُوهُ. 5وَأَطْلُبُ أَنَا دَمَكُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَقَطْ.
نلاحظ هنا أن الله سمح بكل الحيوانات طعاماً بالرغم من الإشارة سابقاً إلى وجود حيوانات طاهرة وغير طاهرة. أعتقد أن هذا يشير إلى أن تقسيم الخليقة إلى طاهر وغير طاهر ليس جوهري في الخليقة وإنما هي مجرد "وسيلة إيضاح" جسدية منظورة للإشارة إلى الخطايا الروحية الحقيقية. وهذا ما أشرنا إليه سابقاً فيما يقوله بولس الرسول في العهد الجديد: لأَنَّ كُلَّ خَلِيقَةِ اللهِ جَيِّدَةٌ، وَلاَ يُرْفَضُ شَيْءٌ إِذَا أُخِذَ مَعَ الشُّكْرِ، لأَنَّهُ يُقَدَّسُ بِكَلِمَةِ اللهِ وَالصَّلاَةِ.
إذاً الطهر وعدم الطهر هو في توجهات الإنسان الروحية. الطهر هو خضوع الإنسان وإيمانه بالله وشكره على كل شيء يعطيه والنجاسة هي الطمع والأنانية والكبرياء والتمرد وعدم الإيمان.
- لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ
مرة أخرى يشير إلى هذه الحقيقية التي هي مصدر كل التشريع. أن الله خلق الإنسان على صورته. وصورة الله في الإنسان أمر جوهري فيه لا يغيره العصيان أو الخطية. هذه الصورة. أو الطبيعة الأخلاقية الروحية في الإنسان تجعل الباب مفتوحاً أمامه إلى الخير الأبدي فيعيش مع الله إلى الأبد، كما تجعل الباب مفتوحاً أيضاً للشر الأبدي عندما يعيش الإنسان إلى الأبد أيضاً، ولكن بعيداً عن الله.
- َفأَثْمِرُوا أَنْتُمْ وَاكْثُرُوا وَتَوَالَدُوا فِي الأَرْضِ وَتَكَاثَرُوا فِيهَا».
ثم يختم مرة أخرى بالتأكيد على دعوة الله للإنسان للنمو. فالحقيقتان الجوهريتان، كما يظهر من التكرار، هو أن الإنسان مخلوق على صورة الله ومدعو للنجاح والازدهار.